إن أكثر ما أخافه وأحذره في الحياة هي المرّة الأولى والمرّة الأخيرة والتفصيل المرّ الذي يلي كلاهما على الترتيب .
قبل خمسة أشهر من هذا , كنتُ أتجوّل في أحد الأسواق أبحث عن أمر أحتاجه كمُنظّف كلى , كموسّع طبيعي لشرايين القلب , شئ هكذا يُعين على الشفاء بسرعة , أو رُبما يُساعد على الموت بسرعة أكبر . وقعت عيناي على اثنين من الصبية ,
إنهما يقتربان , ابتسما فبسِمت وهو الفعل الوحيد الذي لا أتردّد في القيام به . قد يكونا في سنّ الرابعة أو الخمسة الأعوام بتقدير البصر . الأول طليق اللسان والآخر يعمد بخجل عند الإشارة إلى ظاهر الأشياء
هكذا بفطرة سألوني شراء أحذية لهما , وبفطرة البراءه نقلاني إلى ردهة الأحذية مباشرةً
اشترينا الأحذية السوداء وانطلقنا , فأعادني جاسم بإشارته إلى ساعة في آخر الصفّ , وبإنتصار لذوقه الجميل على عجل : وهذي بعد !
انخطف بصري إلى قيمتها , على استحياء تمنّيت حقاً لو أنني أمتلك ثلاثة ريالات , ثلاثة ريالات فقط
وإن كانوا "كسورا" فأنا أقبل أن أجمعها جمعا إذا قام أحدهم برميها على الأرض !
أوّل مرّة أشعر أنني أُريد أن أقول "أُريد" , بل أوّل مرّة في حياتي بأكملها أنظر نظرة دونية لمستوى العائلة ولمرتّبي الزهيد .
أوّل مرّة ينتابني فيها الخُذلان ولا أكون مُمتنّأً لله !
قد يبدو الأمر تافهاً ولكن وبمجرد التفكير به يستنفذني , يستنزف الكثير من الطاقة الداخلية لأنني على علم بأنني لا أعلم خيراً يُشبه إحسان الظن بالله في خصاصة أو رخاء . إن الحاجة تقتضي منك أن تكون "جحوداً" أحيانا ..
لقد أدركت بعد هذا أنني لستُ مُختلفاً كما ظننت !
نعم , فما أن شابهتهم حتى بدأت تتوالى عليّ المضرّات
أصبح دائما ما يتكرّر عليّ هذا الحلم الذي يُحطّم رئتاي فلا أقوى على ضبط الشهيق والزفير. أفيق بغصّة وأستعذ بالله القدير العليم على الشيطان الرجيم , وأنسرق من غرفتي إلى غرفة أمي
أتمدّد على الأرض بِمُحاذاة سريرها وأستغفرالله عدد ما عدّ تعالى عليّ أنفاسي المُتلاحقة . لا يمسّ جفني النوم حتى أسمع صوتها كالعادة عند شكايتها من تعب المرض وهي تتقلّب بتنهيدتها المُعتاده " يــــــــا اللـــــــه " بصرخة ألم طويلة اشتمّ فيها عبث وجود أقراص الدواء , السرير الطبّي , السمّاعه الكذوب , وأنا معهم دون جدوى .
مُعاناتي والكوابيس لا تنقطع . إنّها تتكرّر فأخاف أن تتحقّق . قد احتالت عليّ فصرَفتني بهزيمة إلى كبسولاتي الخاصّة . أنا مُدمن في آخر حلقاتي !
لقد أنهَيت التجربة , كلا بل أنا الآن وفي هذا اللحظة - التامّة الخلق – أُواجه الإختبار الصعب .
في قمّة الوعي لديّ أجِدُني أُحدّق في تقاسيم وجهي عبر المرآة , أرى أنني متوسّط البياض , حادّ الملامح , مُتحدّ للصعاب .. أنيق وبارد وبارّاً جداً حتى أن كلمة "جداً" تخفق في إيصال فكرة برّي وإحساني ... وساعة فقط من تناول العقار السامّ ,
تسودّ هيئتي , وتجحظ عيناي , وتموت أعصابي وجهاز الحسّ فلا أكترث حتى ليوم القيامة , وتخرج كلمات سكّيرمنّي "فليفعل الله بي ما يشاء , عليّ منه ما أستحق .."..مهلاً , هو صوت يُواطئ صوتي ولكن صدقاً لستُ أنا ! لا أُزكّي نفسي ولكن هو مُصاب جلل , قد تُبتلى به , وقد لا تُبتلى به ولا بسواه ولكن ومهما شقّت الطرق أو انشقّت إلى حيثُ لا تعلم , فأنت وحدك ستُقاسي مُصابك . فيكبر ويغدو ضخماً بيد أنّك تراه أكبر منك , ثم تُلاحظ أنّك تراه ولا تراك ..
هي الأعباء التي تحمّلتها رُغماً عنك , وها هي تتفاقم لِتقصم ظهرك ,
فتُبرهِن للغرباء كم أنت صغير حقير حتّى أنّ النملة بخفّتها في كفّة الميزان قادرة على أن ترجح على كفّة ثقلك ..
بمثابة الخاصرة أنت والسكاكين حولها تزدد تنوّعاً ما بين حادّة تقضي على خيوط النقل الطرفية المؤدّية إلى المركز , وما بين سكاكين مُتعثّرة , تتعرّج أثناء عملية قطع خيوط العَصَب , فتكون كالذي يرى الموت والحياة أثناء موته , فلا أنت الذي بالموت نَجَوت , ولا أنت الذي من الموت نَجَوت !
أرقّ ما قد يكون قادرا على جمعك دماءاً وأشلاء ,وإحساس مُبعثر ... صلاة تقضيها على وجه السرعة في حين أنّها أشدّ انتقام من كل الصدأ
كل العُسر
كل الآلام
وكل الحروق إذ أنت أدّيتها على مهل ..
نيّة غيب وأياد مفرودة إلى الأعلى ولفظتيّ " اللهُ أكبر "ما هنّ إلّا فوز فوري ساحق على كل سقطة مُدوية
الله أكبر , وأنا أصغر
الله أكبر , وإبليس أصغر
الله أكبر , و ذنوبي أصغر
اللهُ أكبر , والحياة أصغر
اللهُ أكبر , والدواء أصغر
اللهُ أكبر , و رائحة أمي أصغر , والكوابيس الملعونة أصغر , والموت أصغر , وكل شئ رُغم أنفه الكبير , صغير !
لا ألبث أن أهتدي وأنقل البشائر المُبهِجة حتى يتسلّط الكابوس بهاجسه على جوارحي . إنه الصباح يتفلّت منّي , فأتبعهُ بِبُغض كالساحق أنا كالماحق لا آتي الحياة بِرفق ولا تأتيني بِرفق .
تعوّدت على ذلك كثيرا لمّا كنت أتسرّب من الباب الخلفي لها فأُغافلها بالولوج عبر الأمامي بصوت حلو , وشكل حلو وأفكار عوجاء !
إنّها الحياة لا تجتنبني ولا أجتنبها , جعلت منّي أضحوكة لنفسي فقد كان يهدّني الواقع كلّه , وأصبح "حلم" واحد فقط قادر على أن يهدّني هدّا !
اللهم يا وليّ نعمتي وملاذي عند كربتي أجعل ما أخاف وأحذر برداً وسلاماً عليّ كما جعلت النار برداً وسلاماً على سيدنا إبراهيم عليه السلام... آمين أجمعين